الفِتْنَةُ الرَّابِعة (195 – 198هـ / 811 – 813م)، وتُعرف أيضًا باسم الحرب الأهلية العبَّاسية الكبرى، هي صراع أهلي مُدمر اندلع بين الأخوين الأمين والمأمون، ابني الخليفة هارون الرشيد، حول وراثة عرش الخلافة العبَّاسية.
تعود جذور الصراع إلى الترتيبات المُعقدة التي وضعها هارون الرشيد لولاية العهد قبل وفاته. ففي حين عيَّن ابنه الأمين (الذي كان يمثل التيار العربي وبلاط بغداد) وليًا أول للعهد، فإنه منح ابنه الأكبر المأمون (الذي كان يمثل النخب الخُراسانية) ولاية خُراسان الواسعة بصلاحيات شبه مُطلقة، وجعله ولي العهد الثاني. أُدخل أخوهما، القاسم المؤتمن، في الترتيب وليًّا للعهد الثالث. آلت الخلافة إلى الأمين في بغداد بعد وفاة الرشيد سنة 193هـ / 809م، لتبدأ بذور الشقاق تظهر سريعًا.
بدأ الأمين باتخاذ خطوات لتقويض الترتيبات التي أقرها والده بتحريضٍ من حاشيته في بغداد، ولا سيما وزيره الفضل بن الربيع، فعمل أولاً على تهميش أخيه القاسم وألزمه بالبقاء قريبًا منه، ثم تجرأ على الخطوة الأخطر، وهي خلع أخيه المأمون من ولاية العهد رسميًا وتعيين ابنه الرضيع موسى بن الأمين بدلاً منه، مخالفًا بذلك وصية الرشيد والمواثيق المُعلقة في الكعبة. رفض المأمون في مرو هذه الإجراءات في المقابل، وبدعمٍ من النخب الخُراسانية ووزيره القوي الفضل بن سهل، أكَّد على استقلاليته التامة بولايته، ثم قرر خلع الأمين لكونه خالف الوصية ومنع رسله من الوصول لخراسان أو الاحتكاك بأهلها. حشد الأمين جيشًا جرارًا بقيادة علي بن عيسى بن ماهان لغزو خُراسان حين بلغت الفجوة ذروتها، إلا أن قوات المأمون، بقيادة القائد العسكري الفذ طاهر بن الحسين، تمكنت من سحق جيش بغداد في وقعة الري سنة 195هـ / 811م، رغم ضآلة حجم جيش المأمون مقارنة بجيش الأمين. لم يكتفِ طاهر بصد الهجوم، بل انتقل إلى الهجوم المضاد، فغزا العراق وفرض حصارًا مُدمرًا على بغداد نفسها.
بعد حصار دام قرابة أربعة عشر شهرًا، سقطت بغداد سنة 198هـ / 813م، وقُتل الأمين، وبويع المأمون خليفةً للمسلمين. اتخذ المأمون قرارًا بالبقاء في مرو بدلاً من العودة إلى بغداد، وسلَّم إدارة الدولة لوزيره الفضل بن سهل، الذي اتبع سياسة تميل بوضوح للخُراسانيين على حساب النخب العربية والعباسية التقليدية، في حين لزم المأمون المجالس العلميَّة والأدبية. أدى هذا الفراغ في السلطة المركزية، مقترنًا بسياسات ابن سهل، إلى انفجار اضطرابات وحروب أهلية في الأقاليم، فبرز قادة محليون في الجزيرة والشام ومصر. وشعرت النخب العباسية بالتهميش التام في بغداد، وزاد من سخطهم تبني المأمون لسياسة التقرب من العلويين ثم تعيينه علي الرضا وليًّا للعهد من بعده، ونتيجةً لذلك، أعلن أهل بغداد خلع المأمون، وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي خليفةً بدلاً منه سنة 201هـ / 817م.
أدرك المأمون التطورات الخطيرة المهددة لخلافته ووحدة الدولة واستقرارها، وأدرك أن بقائه في خُراسان لم يعد ممكنًا، وأن وزيره الفضل بن سهل يستبد بالدولة. وبعد اغتيال وزيره الفضل بن سهل في مسقط رأسه سرخس سنة 202هـ / 818م، غادر المأمون خُراسان متجهًا نحو بغداد، فدخلها سنة 204هـ / 819م، لينهي بذلك تمرد عمه إبراهيم ويعيد الاستقرار للدولة تدريجيًا. قاد المأمون عملية طويلة وشاقة لإعادة توطيد سلطة الخلافة، فأخضع الأقاليم الثائرة في مصر والشام والعراق واليمن، وقاد ثلاثة حملات جهادية بنفسه على الرُّوم. بينما استمرت بعض التمردات، مثل ثورة الخُرَّمية، لسنوات طويلة حتى قضى عليها خلفهُ أخيه المعتصم بالله.