أبعاد خفية في وكيع بن الجراح

وَكِيعُ بن الجَرَّاح الرُّؤاسي (128- 197 هـ / 745- 812 م) هو الإِمام الحافِظ أبو سُفيانَ وَكِيعُ بنُ الجَرَّاحِ بنِ مَلِيحِ بنِ عَدِيِّ بنِ فَرَسٍ الرُّؤاسِيُّ الكُوفِيُّ، ويُعرف اختصارًا بـ وكيع بن الجَرَّاح () أو وَكِيع، عالم مسلم من أهل الكوفة من القرن الثاني الهجري؛ مُحدِّث من الطبقة التاسعة، ومن أتباع التابعين، ومُفسِّر وفقيه.

عاصر وكيع أواخر عهد الدولة الأموية وبداية نشأة الدولة العباسية وفي تلك الفترة سادت الفتن والاضطرابات وظهرت الدعوة العباسية على الساحة في خراسان بقيادة أبي مسلم الخراساني، وحُسم الصراع بين الأمويين والعباسيين في موقعة الزاب الكبرى في سنة 132هـ/750م التي انتهت بهيمنة بني العباس على ديار الخلافة وبسط نفوذهم فيها، عاصر وكيع الحقبة الأولى من الدولة العباسية من خلافة السفاح إلى خلافة الأمين، تُعد هذه الفترة أرقى درجات الوحدة والتضامن والتقدم والازدهار للعالم الإسلامي وارتفعت فيها الحركة العلمية والأدبية، وظهرت عدة مراكز علمية في ديار الخلافة في الحجاز والعراق والشام ومصر وارتحل وكيع مرات عديدة لهذه المراكز فاستطاع أن يُكوِّن ثروة علمية انتفع بها كثير ممن جاء بعده.

يُنسب وكيع لبني رُؤاس بن كِلاب وهم من قيس عَيْلان فيُقال له "الرُّؤاسِيّ"، واختُلف في أصوله فقيل إنه من قرية أبة من قرى أصبهان، وقيل إنه من إحدى قرى نيسابور، وقيل من بلاد السُّغْد، وقيل وُلد في الكوفة. واختُلف في تاريخ مولده فقيل إنه وُلد في سنة 119هـ، وقيل في سنة 127هـ، وقيل في سنة 128هـ، وقيل في سنة 129هـ. اشتَهَرت أسرته بطلب العلم الشرعي ولا سيَّما علم الحديث، فكان والده الجراح بن مليح من رُواة الحديث من الطبقة السابعة، وأخوه مليح بن الجرَّاح من طلَّاب العلم، وابنه سفيان من رواة الحديث، وحظي بنو عمومته بالعلم الشرعي مثل: زهير بن عبد الله الرُّؤاسي، ومحمد بن ربيعة الكلابي الرُّؤاسي، وبريد بن عبد الله أبو بحر.

باكر وكيع بطلب العلم بعمر ثماني عشرة سنة واستبشر به سليمان الأعمش، وسفيان الثوري فتتلمذ على يديهما وتعلم النحو والحديث، ثم ارتحل من الكوفة إلى المراكز العلمية الأخرى في الحجاز والشام ومصر، اكتسب من هذه الرحلات معرفته بأحوال الرجال وطرق الحديث والفقه والعقيدة فكوَّنت شخصيته العلمية التي ارتحل لأجلها كثير من الطلاب ليتتلمذ على يديه، ومن أشهر مشايخ وكيع: سفيان الثوري وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد وسفيان بن عيينة وشعبة بن الحجاج وعبد الرحمن الأوزاعي وعبد الله بن عون وابن جريج ومالك بن أنس وأبو حنيفة النعمان، ومن أشهر تلامذته: أحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك وأبو بكر بن أبي شيبة وعثمان بن أبي شيبة وهناد بن السري ومحمد بن إدريس الشافعي.

لوكيع أقوال عديدة في العقيدة الإسلامية وكان على عقيدة أهل السنة والجماعة، فله أقوال كثيرة في المسائل الخلافية بين الفرق العقائدية الأخرى ينتصر فيها لقول أهل السنة والجماعة، واتَّخذ موقفًا معارضًا لبعض هذه الفرق، ويُعدُّ قول وكيع في الفرق حُجَّة عند أهل الحديث، وقد اتُّهم بالتشيع رماه بعض العلماء بذلك لتقديمه باب فضائل علي على باب فضائل عثمان في كتابه فضائل الصحابة، واختُلف في مذهبه الفقهي فقيل إنه حنفي، وقيل حنبلي، وقيل ثوري، وقيل مجتهد مستقل لم يكن مُقلِّدًا لأحد من الأئمة الأربعة، وكانت أقواله الفقهية مستشهدةً بالكتاب والسنة دون الرأي والقياس، انتقد العلماء وكيعًا لملازمته شرب نبيذ الكوفة من التمر الذي يُسكِّر الإكثار منه وكان يشربه متأولًا ويرى بأحليته مثل كثير من فقهاء الكوفة، واتُّهم في مسألة الخروج بالسيف.

يُعدُّ وكيع بن الجراح من الأوائل الذين صنَّفوا في علوم القرآن والسنة والفقه والتاريخ، ومؤلفاته لها دور في ضبط قواعد العلوم الشرعية وأصولها، وسار على منهج ابن أبي زائدة في التصنيف وروى العلماء مرويات وكيع في كتبهم واقتبسوا من كتبه، ومن أشهر مؤلفاته: التفسير، وكتاب الأشربة، وكتاب الزهد، وكتاب السنن، وكتاب الغرر، وفضائل الصحابة، والمسند، والمشيخة، والمصنف، والمعرفة والتاريخ، ونسخة وكيع عن الأعمش، وكتاب الهبة وكتاب الصلاة.

لم يلِ وكيع عملًا رسميًا وعُرض عليه القضاء من الخليفة هارون الرشيد لكنه رفض، كانت حالته ميسورة واكتفى بإمامة أحد مساجد الكوفة، واتَّصف بالأخلاق الإسلامية المُستمدة من السنة النبوية وتحلَّى بعفة اللسان والهيبة والحلم والوقار والشفقة والصبر وسعة الصدر والكرم والتواضع والسخاء، وكان حريصًا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله نصيب وافر من العبادة وكان مضرب المثل في الزهد والخشوع، وعبادته كانت من صلاة وصيام واعتكاف واستغفار وقراءة القرآن. حجَ وكيع مرات عديدة فقيل حجَّ سبعين حَجَّة وقيل أربعين، وفي صفاته الخَلْقية كان أعور العين وأسمر اللون وسمينًا ضخمًا.

وقعت محنة لوكيع في مكة سنة 184هـ وقيل سنة 185هـ، إذ روى حديثًا عن وفاة النبي صوَّر فيه ما وقع للنبي، وهو حديث منكر منقطع الإسناد، ظنت قريش وأهل مكة أن الحديث ينتقص من قدر النبي فاجتمعوا وشكوه عند الوالي فقرر صلبه، فدافع عنه سفيان بن عيينة ونصح الخليفة هارون الرشيد ووالي مكة بعدم قتله، فاستجابوا لنصيحته وأطلقوا سراحه، فانطلق من مكة إلى المدينة المنورة، وعلم أهل المدينة بما حصل له في مكة فأرادوا رجمه ولما علم وكيع بما يدبرونه له رجع إلى الكوفة عن طريق الربذة. أواخر عمره أدَّى مناسك الحج وأثناء عودته إلى الكوفة أُصيب بداء البَطَن ولم يستطع إكمال مضيه إلى الكوفة فنزل في فيد، كان معه ابنه مليح وأحيانًا يزوره بعض العلماء اطمئنانًا على حاله. اختُلف في سنة وفاته فقيل سنة 193هـ، وقيل 196هـ، وقيل 197هـ، وقيل 198هـ، وقيل 199هـ، وكانت وفاته يوم عاشوراء ودُفن بفيد.

كان لوكيع إلمام بمختلف العلوم الشرعية وأثبت العلماء الإمامة له في كثير من جوانبها، من أبرزهم علوم الحديث والفقه والتفسير، ففي الحديث كان عالمًا بروايته ونقده واشتُهر به، وسار على مناهجه الخاصة في تلقِّي علم الحديث، وكان ممن يُعتد بقولهم في علم الجرح والتعديل وعلل الحديث، ومع حرصه وشدَّته في رواية الأحاديث إلا أنه أخطأ في بعضها وأكثر أخطائه في أسماء الرواة وكناهم ونحوها، وقليلًا ما يقع في التصحيف لضعفه في اللغة العربية. كان وكيع إمامًا في الفقه ووصفه بعض العلماء بالفقيه إلا أن أقواله الفقهية قليلة، وفي التفسير يُعد من كبار مفسري عصره وله علم واسع في التفسير والقراءات واعتمد مدرسة التفسير بالمأثور في تفسيره الآيات. ونتيجة لمكانته العلمية اتفق العلماء على إمامته وعلمه وفضله مع حفظه وورعه وأثنى عليه علماء عصره ومن جاء بعدهم.

قراءة المقال الكامل على ويكيبيديا ←