عزلة الدريعأ هي إحدى عزل مديرية ذي ناعم في محافظة البيضاء اليمنية ويبلغ تعداد سكانها 4366 نسمة حسب التعداد السكاني في اليمن لعام 2004.
تُعتبر الدريعأ (أو الدريعا) أحد أهم المراكز التاريخية في منطقة بلاد الظاهر، التي شكَّلت محطة تاريخية يمنية محورية. كانت هذه المنطقة الجغرافية واسعة النطاق، تمتد من شبوة ومأرب وأبين ودثينة والبيضاء، وصولاً إلى تخوم جبال سرو حمير في يافع.
وعلى أرض الدريعا، عاشت إحدى القبائل اليمنية العريقة، وهي الجراهمة، الذين يمثلون بطناً مهماً من بطون قبيلة آل جُرهوم اليمنية. إنّ قصة جُرهوم ليست مجرد فصول تُسطَّر في سجل التاريخ اليمني، بل هي قصيدة صمود كُتبت على حجر الزمن؛ قبيلة عريقة لم تُرسخ وجودها بالقوة والثراء فحسب، بل بتشبثها الأبدي بديانتها اليهودية في قلب الجزيرة العربية، اذ انها لم تعتنق [[الدين الاسلامي]] الا في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي في عهد الدولة الطاهرية. ومن الضرورة التاريخية التمييز بين هذه القبيلة اليهودية اليمنية وبين قبيلة جُرهم العربية البائدة المعروفة، فلكل مسار تاريخي نبع، ولكل وجود أفق.
[[اليهودية في اليمن]]: جذور ضاربة قبل فجر الإسلام
قبل أن يسطع فجر الإسلام، كانت الديانة اليهودية هي المهيمنة والراسخة في عموم بلاد اليمن. لم يكن اليمنيون في تلك الحقبة ليسمحوا بمساس عقائدي، بل كانوا حماة لمعتقدهم يواجهون كل تعدٍ بصلابة الحجر. لقد ارتبطت تلك الحقبة بـ ازدهار حضاري مدوي تماهى فيه الفن والعمارة والتجارة مع روح الثقافة اليهودية.
في خضم المتغيرات الكبرى التي عصفت بالشرق الأوسط، وظهور المسيحية وانتشارها، ظلت اليهودية في اليمن كالصخرة الأزلية؛ فالمد المسيحي القوي الذي جرف مناطق شاسعة لم يستطع زعزعة الجذور التي ضربت عميقاً في أرض سبأ وحمير، وبقي هذا الصمود عنواناً لقرون طويلة.
تحول العهد وصمود المتشددين
مع بزوغ نور الإسلام، استقبلت قبائل اليمن الحدث التاريخي، واعتنق غالبيتهم الدين الجديد. كان هذا التحول نتاجاً لـ الديناميكية السياسية والاجتماعية وجاذبية الرؤية الكونية للإسلام.
لكن في هذا المد الهائل، بقيت قبائل يهودية متشددة، ومنها جُرهوم، متمسكة بعهدها القديم. لقد واجهت هذه الأطياف صعاباً قاهرة وظروف اضطهاد، تركزت بشكل خاص ضد المتشبثين بالعقيدة في المنطقة التي عُرفت آنذاك بـ "بلاد الظاهر".
بلاد الظاهر: مهد الحضارة ومركز الثقل الاقتصادي
كانت "بلاد الظاهر" هي المركز الحيوي والروحي للوجود اليهودي، حيث شملت مساحات واسعة تمتد من شبوة ومأرب وأبين ودثينة والبيضاء، وصولاً إلى تخوم جبال سرو حمير (يافع). في هذا الفضاء الجغرافي، ازدهرت مدنهم وقراهم، واشتهرت القبائل بثقافتها واقتصادها الذي لا يُضاهى.
نزوح جُرهوم: التحالف مع الثورة الطاهرية
في أواخر حكم الدولة الرسولية، ومع بداية القرن الخامس عشر الميلادي، ازدادت وطأة المضايقات والاضطهادات. كان هذا الضغط الوجودي هو الشرارة التي دفعت تلك القبائل إلى نزوح استباقي بحثاً عن ملاذ للكرامة والأمان.
صادفت رحلة اللجوء هذه اضطراب يافع، التي كانت على موعد مع ثورة ضد الدولة الرسولية بقيادة الأمير عامر بن طاهر الذرحاني. وبحكمة سياسية بالغة، أعلن الذرحاني وقوفه إلى جانب الأقليات اليهودية، مستنكراً الممارسات الخارجة عن الأعراف. كانت هذه خطوة استراتيجية لضم الثقل الاقتصادي والبشري والذكاء السياسي لقبائل الظاهر.
وبالفعل، انضمت قبائل يهودية ظاهرية عديدة، وعلى رأسها جُرهوم، إلى الحركة المناهضة للرسوليين بكل ثقلها. وقد كان لزاماً أن يكون تمركزها بجوار مركز القيادة اليافعية، اعترافاً بمكانتها البشرية والاقتصادية.
استقرار وازدهار في جبل اليزيدي
في منتصف العقد الأول من القرن الخامس عشر، وصلت أعداد كبيرة من جُرهوم إلى يافع. استُقبلوا بأفضل ترحيب، واختاروا الإقامة في جبل اليزيدي، إلى جوار قبائل يهودية سابقة استوطنت المنطقة، مثل آل مجيهر والبقشة وجزيلان وغيرهم.
استوطن بعضهم تحت اسم عيزان جُرهوم و بيجان جُرهوم، وهما بطنان رئيسيان تروي الروايات عن ثرائهما الفاحش قبل الانتقال. وقد عاشت إلى جانبهم عشائر يهودية كبرى في رداع والدريعا والسويدا، بالإضافة إلى يهود حبان كـ معتوف ومعتوف-دوه وهليل وشماخ ومايفاعي وعدني.
ريادة الاقتصاد: الصناعة والتجارة والقانون
لم تكن قبائل جُرهوم والقبائل اليهودية الأخرى مجرد مستوطنين، بل كانوا قوة دافعة للاقتصاد. لقد اشتهروا بـ احتكار مهن حيوية درّت عليهم ثروات طائلة، ومنها:
* دلفنة الفضة والصياغة: حرفية متقنة في صياغة المجوهرات والحلي الفاخرة.
* صنع الأواني المنزلية: مهارة في تشكيل الأدوات المنزلية الضرورية.
* التجارة والتنقل: كانوا رواد تجارة القوافل والمسافات الطويلة، ناقلين البضائع ومحققين أرباحاً هائلة.
الموارد وقوانين حماية التجارة
تؤكد النصوص أن هذه القبائل، وعلى رأسها جُرهوم، كانوا من الأوائل الذين مارسوا الاحتكار المنظم وأقاموا "الموارد التجارية" في مناطق نفوذهم. كان المورد كياناً متكاملاً لاستقبال القوافل والمخيمات والحوانيت، لضمان راحة المسافرين وتسهيل تسويق بضائعهم. ومن أمثلة هذه الموارد: مورد السودا، ومورد الدريعا، ورداع، ومورد مرخة، ومورد البيضاء، ومورد البرخ.
الأهم من ذلك، أنهم كانوا أول من سنّ قوانين التجارة لحماية المستهلك من "الغش التجاري" وتجريمه، استناداً إلى نصوص توراتية تحرّم الغش. كما فرضوا الضرائب التجارية التي كانت تُستخدم لتأمين الطرق وحماية القوافل، مما يؤكد بناءهم لنظام اقتصادي متكامل كان سابقة في عصره.
إن قصة جُرهوم هي تأريخ مستمر لرموز يهودية يمنية صمدت وأثرت، وتستحق الدراسة كجزء أصيل من النسيج الحضاري لليمن. تبقى ذكراهم، بالإضافة إلى من تبقوا منهم في ذي ناعم من بلاد آل حميقان والبيضاء، شاهدة على قوة الإرادة البشرية في الحفاظ على الهوية أمام عواصف التاريخ.