يُعدّ كتاب "المسرحيات الكبرى – الجزء الثاني" من أبرز المجموعات المسرحية التي جمعت بين دفتيها أعمدة التجريب الدرامي واللغة الكثيفة في القرن العشرين، من تأليف الكاتب البريطاني الحائز على جائزة نوبل في الأدب هارولد بنتر (1930–2008). يتضمن هذا الجزء أربعًا من أشهر مسرحياته: "العودة للوطن"، "الأيام الخوالي"، "الأرض الحرام" (أو "العزلة")، و"خيانة"، وهي نصوص شكلت حجر الزاوية فيما يُعرف بـ"الظاهرة البنترية" التي أعادت صياغة مفهوم الحوار، وأعادت تعريف الصمت كأداة درامية مكثفة لا تقل وقعًا عن الكلام.
يمثل هذا الجزء امتدادًا عضويًا لرؤية بنتر المسرحية التي تحفر في الطبقات الخفية للوعي البشري، وتكشف القلق الوجودي والصراع الرمزي داخل العلاقات الاجتماعية والزوجية والعائلية. فهو لا يقدم مسرحًا قائمًا على الحبكة التقليدية أو التطور الخطّي، بل يبني مشاهده على التوتر المكبوت، واللغة المقطّعة، والإيقاع الداخلي الذي يسكنه الصمت. في هذه النصوص، يتحول كل حوار إلى صراع، وكل صمت إلى جدار من الغموض، وكل شخصية إلى مرآة لعجز الإنسان الحديث عن التواصل الحقيقي.
ويكتسب هذا الجزء قيمته التوثيقية والفكرية من كونه يشمل مسرحيات كُتبت في فترات متباعدة (1964 – 1978)، لكنها تتشارك الهمّ البنيوي واللغوي، وتمنح القارئ فرصة نادرة لتتبع تطور الأسلوب البنترّي في صورته الناضجة. وقد قام بترجمة هذه النصوص الدكتور محمد عناني، أحد أبرز المترجمين العرب، بأسلوب رصين نقل فيه حساسية اللغة الأصلية وعمقها الدلالي، مما أتاح للقارئ العربي ولوج عالم بنتر بكل أبعاده النفسية والفكرية.
إن كتاب "المسرحيات الكبرى – الجزء الثاني" ليس مجرد تجميع نصوص، بل وثيقة أدبية تُمكّن الدارس من تفكيك بنية المسرح الحديث، وتُرسّخ هارولد بنتر كأحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في تشكيل لغة المسرح في النصف الثاني من القرن العشرين.