حينما اقترب الجيش الصليبي الكبير من حران في أثناء الحملات الصليبية، وفرض عليها الحصار المحكم، وهو لا يعلم باتحاد الجيشين المسلمين للموصل وحصن كيفا؛ كانت مفاجأة كبيرة جدًّا للصليبيين أن ظهر في الأفق الجيش الإسلامي المتحد، والمكوَّن من عشرة آلاف مقاتل، منهم ثلاثة آلاف من العرب والسلاجقة والأكراد تحت قيادة جكرمش، وسبعة آلاف تركماني تحت قيادة سقمان بن أرتق.
وفي سنة (497هـ) 7 من مايو 1104م دارت موقعة شرسة بين المسلمين والصليبيين، وذلك على ضفاف نهر البليخ.
وقاتل في هذه المعركة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي بكل قوتهما؛ لأن المعركة تدور تقريبًا في حدود إمارتهما، أما بوهيموند فقد استفاد من درس أسره قبل ذلك؛ ولذلك وقف في مؤخرة الجيش مع ابن أخته تانكرد ليؤمِّن ظهر الجيش الصليبي، وفي نفس الوقت ليؤمِّن لنفسه طريقًا للهرب!
وما هي إلا ساعات وانتصر الجيش المسلم انتصارًا مهيبًا قُتل فيه من الصليبيين أكثر من اثني عشر ألف مقاتل! كما تمَّ أسر بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي!! هذا فوق عدد كبير آخر من الأسرى، إضافةً إلى كميات ضخمة من الغنائم والأموال والسلاح، وولَّى بوهيموند وتانكرد الأدبار مسرعين إلى أنطاكية!
ولم يتعرض المسلمون أثناء القتال إلى أزمة حقيقية، فقد كانت السيطرة لهم من بادئ الأمر، إلا أنهم تعرضوا لأزمة كبيرة بعد الموقعة، لكن كتب الله لهم منها النجاة؛ ذلك أن معظم الغنائم والأموال -وكذلك الأسيرين الثمينين- وقعوا في يد سقمان بن أرتق وجيشه، وخرج جكرمش خالي الوفاض من المعركة، وغضب جيش جكرمش وهم يشاهدون الثروات تقع في يد الجيش التركماني، وأغروا جكرمش بأخذ نصيبه منها، واقتنع جكرمش بذلك، وذهبوا للمعسكر التركماني، وقد وجدوا أن سقمان كان في مطاردة الصليبيين مع جزء من جيشه، فدخلوا خيمة الأسرى، واستطاعوا أن يأخذوا بلدوين دي بورج أمير الرها، والأسير الأعظم وعادوا به إلى معسكرهم!
وعاد سقمان من مطاردته، وعرف بما حدث، وحضَّه جيشه على قتال جكرمش لأخذ الأسير الثمين، إلا أن سقمان وقف موقفًا لله هو من أعظم المواقف في حياته، ويدل دلالة واضحة على طيب معدنه، وصدق نيته؛ لقد قال سقمان لجيشه: «لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمِّهم باختلافنا، ولا أوثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين».
إنه لا يريد أن يضيع سعادة المسلمين بالنصر باختلافهم على الغنيمة، ولا يريد أن يشفي صدره من جكرمش ويسبِّب شماتة الأعداء في المسلمين.
ثم إنه لم يكتفِ بذلك، بل استغل النصر الإسلامي المهيب، وأخذ ملابس الصليبيين وأسلحتهم، وألبسها لجنوده المسلمين كنوع من التمويه على الصليبيين، ثم مرَّ على عدة قلاع كان الصليبيون قد استولوا عليها، فيحسبهم الصليبيون إخوانهم وجيشهم فيفتحون القلعة، فيدخل المسلمون ويسيطرون على القلعة، وهكذا حتى تمَّ له السيطرة على عدة قلاع وحصون مهمة في المنطقة.
أما جكرمش فقد سار إلى حران، فتسلمها وضمها إلى الموصل، ولم يكتفِ بذلك بل قرر أن يأخذ جيشه -على قلته- ويحاصر إمارة الرها، وهو وإن كان يعلم أن هذه القوة القليلة ما تستطيع أن تفتح إمارة الرها الحصينة، إلا أنها كانت نوعًا من الحرب النفسية سيكون لها أشد الأثر على الصليبيين، خاصةً بعد هذه الهزيمة الثقيلة في حرَّان، أو في موقعة البليخ (نسبة إلى النهر الذي دارت حوله الموقعة).