كرب إيل وتر بن ذمار علي (تـ 650 ق م): أشهر مكاربة سبأ، ويعد المؤسس الفعلي لمملكة سبأ ومنظمها. وقد افتتح هذا المكرب عهده بإرسال هدايا إلى آشور، وهو أول حاكم سبئي اعترف به الآشوريون بوصفه ملكاً وحاكماً، ووفقاً لنقش أثري خاص للملك سنحاريب في ذكرى انشاء المعبد في رأس السنة الآشورية عام 685 ق م أو 682 ق م، قدم (كربئيلو ملك سبأ) هبة تتضمن أحجار كريمة وتوابل بهذه المناسبة. وعلل فرتز هومل إطلاق لقب ملك على كرب إيل في هذا النقش بأن الآشوريين لم يهتموا كثيراً بألقاب هؤلاء الأمراء البعيدين، ولذلك دعوا مكربا "ملكاً". وعلى الرغم من كل الانتصارات العسكرية التي نجح فيها سلفه المكرب السبئي يثع أمر وتر بن يكرب ملك على النطاق الداخلي في جنوبي جزيرة العرب، فإنه لم يستطع فرض احترام الأشوريين، فأجبرت القوافل السبئية التجارية في عهده بدفع جزية، ولم يتقلد يثع أمر وتر أي لقب ملكي بخلاف "كرب إيل وتر بن ذمار علي" الذي اعترف به الآشوريون بوصفه ملكاً.
في عهد كَرِبْ إيل وَتَر (685 ق م - 650 ق م تقريباً) شهدت سبأ اتساعاً ونفوذاً لن يرى له مثيل إلا بعد قرون طويلة تحت حكم ملوك بني ذي ريدان. لتجد منطقة جنوب شبه الجزيرة العربية نفسها موحدة، فانتشرت الأنماط المعمارية والفنية المشتركة في جميع أنحاء المنطقة وخارجها. وفي واقع الأمر هي نفس الفترة التي انتقل فيها سكان جنوب شبه الجزيرة العربية إلى الحبشة المجاورة، ونشروا فيها أساليبهم المعمارية وفنهم وكتابتهم، وهو ما نجده بأشكال الحروف في لغتهم الحالية.
يعد نقش النصر السبئي في صرواح، العائد لهذا المكرب حوالي العام 650 ق م، من أهم الوثائق السبئية المبكرة، والتي تشرح لنا نشأت هذه المملكة. وقد جاء في هذه الوثيقة المهمة، خبر مملكة أوسان التي دمرها السبئيون كلياً وأحرقوا مدنها وسلبت ممتلكاتها وقتلوا أعداداً كبيرة من السكان وأسروا أيضاً الآلاف منهم، وأما أراضي مملكة أوسان فتم توزيعها على حلفاء سبأ الجدد قتبان الذين كانوا أعداء سبأ في القرن الثامن ق.م. وأيضاً على مملكة حضرموت التي كانت أيضا حليفة لسبأ. كما سيّر السبئيون حملات ضد قبائل كحد ذو - سوط وتبنو ودهس - التي كانت أيضاً من ضمن أعداء مملكة سبأ.
دام التحالف بين سبأ ونشان - المملكة الرئيسية في الجوف عقوداً من الزمن، وفي وقت متأخر من حكم كرب إيل وتر ابن ذمار، ينفسخ التحالف بين نشان وسبأ وينقلب إلى عداوة. ولذلك فإن القتال ضد نشان بعد هزيمة أوسان ونجران كان بمثابة مفاجأة، حيث لم ينتهك أي منهما عهد الولاء. وربما كان السبب وراء ذلك، زيادة قوة نشان وسيطرتها على أجزاء كبيرة من الجوف، وهو الأمر الذي كانت سبأ مسؤولة عنه جزئيًا، كما هو مذكور صراحة في نقش كربئيل وتر. قام السبئيون بحملتين عسكريتين في أواسط القرن السابع قبل الميلاد. في الحملة الأولى انتصرت سبأ على نشان. عادت نشان إلى العصيان للمرة الثانية، فجهز كرب إيل وتر حملة ثانية - كان الصراع فيها مع نشان أطول مما كان متوقعًا، ولم يتم حسمها إلا من خلال حصار نشان ونشق لمدة ثلاث سنوات - دمر فيها سور مدينة نشان وقصرها، ولكن بناءً على أوامر كربئيل لم يتم حرق المدينة، وتم فرض الجزية. وقد أذل كربئيل وتر ملك نشان سمه يفع - الذي نجى بحياته - فأجبره على تشييد معبداً للإله السبئي ألمقه في المدينة، كما قَهَرَ نشان بأن وَطَّن السبئيون وأسكنهم في المدينة، وصادرت سبأ أرض "نشان" الزراعية وجميع السدود التي تنظم الري فيها، ووادي مذاب الذي كان يمون "نشان". وأعطى "كرب إيل وتر" جزءاً كبير من أملاك نشان لمدينتي هرم وكمنا حلفائه. واستولت سبأ على نشق بالكامل.
في القرن الخامس قبل الميلاد بدأ تقهقر مملكة سبأ أمام مملكة معين وقتبان المجاورتين. ومع أفول القرن الخامس قبل الميلاد تنطوي صفحة من صفحات تاريخ نشوء الممالك العربية الجنوبية - التي دامت قرابة ثلاثة قرون - وفتحت صفحة جديدة متميزة بالنشاط التجاري المكثف بين ممالك جنوبي جزيرة العرب - خصوصاً مملكة معين - وبين مدن سواحل حوض البحر الأبيض المتوسط الشرقية؛ غزة، وصيدا، وصور، ومصر، واليونان، وبلاد الرافدين.