الجغرافيا النفسية ليست مفهومًا ينتمي إلى مجال الجغرافيا التقليدية، كما قد يوحي به اسمها، بل هي مصطلح جديد أُنشئ ضمن سياق فكري وفني محدد. تم صياغة هذا المصطلح لأول مرة على يد غي ديبور أحد أبرز الشخصيات في الحركة الفنية الطليعية الأممية الحروفية (Internationale Lettriste) التي امتدت بين عامي 1952 و1957.
هذه الحركة، التي نشأت كرد فعل نقدي على الثقافة الاستهلاكية والرأسمالية، وضعت أسسًا جديدة لفهم العلاقة بين الإنسان والمكان، وقد مهدت الطريق لظهور حركة الأممية الموقفية (Internationale Situationniste). في هذه المرحلة، اكتسبت الجغرافيا النفسية طابعًا أيديولوجيًا أكثر وضوحًا مستوحى من الفكر الماركسي.
الجغرافيا النفسية تهدف إلى دراسة الطرق التي يتفاعل بها الإنسان مع البيئة الحضرية، لكنها لا تكتفي بالملاحظة الأكاديمية. بل تسعى إلى كشف التأثيرات النفسية والعاطفية التي تفرضها التكوينات المكانية على السلوك البشري. وبذلك، تعمل الجغرافيا النفسية على تحليل الحالة المزاجية والجمالية للمدن، وكيف تؤثر تصميماتها، أحياؤها، ومساراتها على تجارب الأفراد اليومية.
من خلال التجوال العشوائي (dérive)، وهو أحد أهم ممارسات الجغرافيا النفسية، يقوم الأفراد بالتنقل في الفضاء الحضري بحرية، بعيدًا عن المسارات المعتادة أو الأهداف المحددة مسبقًا. الهدف من ذلك هو كشف الجوانب الخفية للمدينة، وتحدي الأنماط المفروضة من التخطيط العمراني والنظام الرأسمالي.
تُعد الجغرافيا النفسية، إذن، مفهومًا فلسفيًا وثقافيًا أكثر منه جغرافيًا، حيث أنها تدمج بين الفنون، السياسة، وعلم النفس لفهم الديناميات الاجتماعية والمكانية التي تشكل حياة الإنسان في المدن الحديثة.