الدَّوْلَةُ العَبَّاسِيَّة أو الخِلَافَةُ العَبَّاسِيَّة أو دَوْلة بني العبَّاس (الدولة الفعلية: 132 – 656هـ / 750 – 1258م) ثم (الخلافة الرمزية: 661 – 923هـ / 1261 – 1517م) هي ثالث خلافة إسلامية في التاريخ، وثاني السلالات الحاكمة في الإسلام. تُعد الدولة العباسية من أطول السلالات الحاكمة عمرًا، فقد دام حكمها الفعلي في بغداد لأكثر من خمسة قرون، وحكمها الرمزي حتى ثمانية قرون. أسسها رجال ينحدرون من سلالة العبَّاس بن عبد المُطَّلِب، أصغر أعمام النبي مُحمَّد، مكتسبة بذلك شرعيتها الدينية. قامت الدولة على أنقاض الدولة الأموية بعد ثورة كبرى انطلقت من خُراسان سنة 129هـ / 747م، اعتمدت فيها الدعوة العبَّاسية على دعم الخراسانيين الساخطين على الحكم الأموي. استطاع العباسيون استئصال شأفة بني أمية وإزاحتهم عن سدة الحكم لأسبابٍ عديدة، ولم ينجُ منهم إلا عبد الرحمن الداخل مؤسسًا إمارة في الأندلس.
تولى الخلافة أولاً أبو العباس السفاح (حكم 132 – 136هـ)، الذي نقل العاصمة إلى العراق متخذًا من الأنبار مقرًا له، إلا أن المؤسس الحقيقي للدولة أخوه أبو جعفر المنصور (حكم 136 – 158هـ). أرسى المنصور دعائم الحكم بقضائه على منافسيه الكبار مثل أبو مسلم الخراساني، وسحق ثورات خطيرة كثورة النفس الزكية في المدينة المنورة، وفتح طبرستان، وإعادة السيطرة على إفريقية. ويُعد إنجازه الأبرز بناء العاصمة الجديدة بغداد (مدينة السلام) سنة 145هـ / 762م، لتصبح مركز الخلافة لقرون. تلاه ابنه أبو عبد الله المهدي (حكم 158 – 169هـ) الذي عُرفت خلافته بالرخاء وملاحقة الزنادقة ووصول جيشه إلى أبواب القسطنطينية مهددًا الرُّوم التي أذعنت ودفعت الجزية لسنوات. وتبعه بتتبع الزنادقة ابنه موسى الهادي (حكم 169 – 170هـ).
بلغت الدولة أوج قوتها وازدهارها في خلافة هارون الرشيد (حكم 170 – 193هـ) مع وزارة آل برمك، محولًا بغداد إلى منارة للعلم والثقافة، وبنيت بيت الحكمة وازدهرت سريعًا حركة الترجمة والأدب والفنون، وتعاظم الثراء والترف، ثم ازداد نفوذ البرامكة حتى نكبهم الرشيد بعد سبعة عشر عامًا من الوزارة البرمكية. أدت ترتيبات ولاية العهد المعقدة التي وضعها الرشيد إلى اندلاع حرب أهلية مدمرة بعد وفاته بين ابنيه الأمين (حكم 193 – 198هـ) والمأمون وليّ العهد حتى انتصر الأخير في حربه بعد ثلاث سنوات. وصل الاهتمام بالعلم إلى ذروته في خلافة المأمون (حكم 198 – 218هـ) إذ ازدهرت حركة الترجمة بشكل ممنهج، وأنهى ثورات عديدة أبرزها ثورة البشموريين في مصر، وقاد ثلاث حملات جهادية بنفسه على الرُّوم، غير أن الخليفة تبنى فكر المعتزلة وفرض المحنة على العلماء. تولى المعتصم (حكم 218 – 227هـ)، وهو الخليفة العسكري الذي غيّر بنية الجيش بالاعتماد الكثيف على الأتراك، وبنى سامراء لتكون قاعدة لجنده، متخذًا إياها حاضرة جديدة للخلافة، واشتهر بإنجازاته الحربية كالقضاء على ثورة بابك الخُرَّمي في أذربيجان، وفتح عمُّورية من بلاد الرُّوم. واستمر خلفه ابنه الواثق (حكم 227 – 232هـ) بالاعتماد على الأتراك والبقاء في فرض المحنة.
بدأ انحلال الدولة في خلافة المُتوكل (حكم 232 – 247هـ)، على الرغم من إنهائه للمحنة، شدد على أهل الذمة، وحاول التخلص من نفوذ الأتراك، ونقل العاصمة إلى دمشق، لكن مقتله على أيديهم أدخل الدولة في فوضى لعشرة أعوام (247 – 256هـ)، حيث سُمم ابنه المنتصر (حكم 247 – 248هـ) رغم تحالفه مع الأتراك، ثم شبت حرب بين المُستعين (حكم 248 – 252هـ) والمُعتز (حكم 252 – 255هـ) انتهت بمقتل كلاهما لاحقًا، ورغم أن الخليفة الزاهد المهتدي (حكم 255 – 256هـ) تخلص من بعض القادة الأتراك، غير أنهم قتلوه. تزامن هذا الضعف المركزي مع انفصال أجزاء واسعة من الدولة، فاستقل ذاتيًا الطولونيون بمصر، والطاهريون بخُراسان، مع إبقاء الدعاء للخليفة واكتساب الشرعية منه، وظهرت ثورة الزنج المدمرة في جنوب العراق.
استعادت الخلافة هيبتها وتجددت صحوتها مؤقتًا بعد استخلاف المعتمد (حكم 256 – 279هـ) الذي عيّن أخيه الموفق لقيادة الجيش، وتمكن الأخير من إنهاء فوضى الجند، وسحق ثورة الزنج. وانتعشت الدولة في خلافة المُعتضد بالله (حكم 279 – 289هـ) الذي أعاد العاصمة لبغداد، واستمر ابنه المكتفي (حكم 289 – 295هـ) في قيادة الدولة، وأعاد ضم مصر والشام بعد قضائه على الدولة الطولونية.
تصدعت الدولة بعد استخلاف المقتدر (حكم 295 – 320هـ) لصغر سنه، فتحكمت والدته شغب في الدولة، وظهر القرامطة بشراسة في البحرين وهجموا على جنوب العراق ودخلوا مكة وقتلوا الآلاف وأخذوا الحجر الأسود لنحو 22 عامًا، غير أن العباسيين صدوا ثلاث حملات من الفاطميين للسيطرة على مصر، واستُعيدت فارس لفترة. قُتل المقتدر من قائد جيشه مؤنس الخادم، ثم حكم القاهر (حكم 320 – 322هـ) فقتل مؤنس، ثم قُتل القاهر، وتدهورت أحوال الخلافة سريعًا. في خلافة الراضي (حكم 322 – 329هـ) استُحدث منصب أمير الأمراء الذي سلب الخليفة كل سلطاته الزمنية نتيجة تحكم الجيش وضعف الإدارة المدنية، ثم خلفه المتقي (حكم 329 – 333هـ) الذي خُلع، ثم خلفه المستكفي (حكم 333 – 334هـ) الذي جاء البويهيون (زيدية فُرس) في عهده إلى بغداد سنة 334هـ / 946م، فخلعوه ليصبح الخلفاء (مثل المطيع والطائع والقادر) مجرد رموز دينية، لتتنافس ثلاث خلافات على زعامة العالم الإسلامي: العباسية في بغداد، والفاطمية في القاهرة، والأموية في قرطبة.
طرد السلاجقة (وهم سُنّة أتراك) البويهيين من بغداد في سنة 447هـ / 1055م بدعوة من الخليفة القائم (حكم 422 – 467هـ). حكم السلاجقة كسلاطين وأعادوا للخلافة السنية هيبتها الاسمية، وحكموا بشرعية من الخلفاء (مثل المُقتدي والمُستظهر)، وفي هذا الوقت بدأت الحملات الصليبية على المشرق. ازداد الشقاق بين الخلفاء والسلاجقة، فقُتل كلًا من المسترشد (حكم 512 – 529هـ) والراشد (حكم 529 – 530هـ). تمكن المقتفي (حكم 530 – 555هـ) أخيرًا من الاستقلال بالعراق وطرد السلاجقة بعد فشلهم في حصار بغداد، ليبسط الخلفاء من بعده سيطرتهم الفعلية من تكريت إلى البصرة مثل المستنجد (حكم 555 – 566هـ) والمستضيء (حكم 566 – 575هـ) والناصر (حكم 575 – 622هـ) الذي يعد أطول الخلفاء عمرًا، والظاهر (حكم 622 – 623هـ) والمستنصر (حكم 623 – 640هـ) الذي أسس المدرسة المستنصرية.
انتهت الخلافة الفعلية في بغداد بشكل كارثي، حين حاصر المغول بقيادة هولاكو خان عاصمة الخلافة سنة 656هـ / 1258م، فقتلوا مئات الآلاف من أهلها، وأحرقوا المدينة ودمروا بيت الحكمة ومحتوياته وقتلوا آخر الخلفاء المُستعصم بالله (حكم 640 – 656هـ) وأنهوا بذلك الخلافة العباسية في العراق بعد أكثر من خمسة قرون. ورغم هذا السقوط المُدوي، فإن رمزية الخلافة لم تمت، فقد أُعيد إحياؤها في القاهرة بعد ثلاث سنوات تحت رعاية سلاطين المماليك، وأول من أحياها السلطان الظاهر بيبرس. استمرت الخلافة العباسية في القاهرة كرمز روحي للعالم الإسلامي لأكثر من قرنين ونصف، إلا أنها كانت خلافة اسمية بالكامل، يمنح فيها الخليفة الشرعية للسلطان المملوكي دون امتلاكه أي سلطة حقيقية باستثناء فترة قصيرة في خلافة المستعين الثاني سنة 813هـ / 1412م. انتهى هذا الفصل الأخير من تاريخ بني العباس بعد الدخول العثماني لمصر سنة 923هـ / 1517م، حين أُخذ آخر الخلفاء المتوكل على الله الثالث إلى الآستانة وقيل بتنازله عن الخلافة لسلاطين آل عثمان، لتُطوى بذلك خلافة بني العباس نهائيًا.
يُعد الدين الإسلامي المقوم الأساسي للدولة، وشهد اكتمال تدوين المذاهب الفقهية السنية الأربعة وجمع كتب الحديث الكبرى كصحيحي البخاري ومسلم. وفي هذا العصر ظهرت فرق كلامية مثل المعتزلة، وطوائف كالإسماعيلية والدروز، وبدايات التصوف. لم تكن الدولة على مذهب واحد، بل تبنت الاعتزال رسميًا في خلافة المأمون، ثم عادت للسنة مع المتوكل. وفي العصر الذهبي، تميز المجتمع بالتعايش، ولعب المسيحيون دورًا محوريًا في حركة الترجمة والطب. كان المجتمع طبقيًا يتكون من الحكام والعلماء والتجار وعامة الناس، وبرزت نساء ذوات نفوذ في بدايات الدولة مثل الخيزران وزبيدة، قبل تراجع دور المرأة السياسي في العصور اللاحقة.
يُعد العصر العبَّاسي هو عصر التدوين والابتكار ثقافيًا، حين بدأت الثورة العلمية بحركة الترجمة الكبرى في بيت الحكمة، ونُقلت علوم اليونان والفرس والهند إلى العربية، وأبدع العلماء المسلمون باختلاف أعراقهم في الجبر والطب والبصريات والفلك. وبلغ الأدب ذروته مع كبار الشعراء كأبي نواس والمتنبي، وتطورت فنون النثر كالمقامات، ودُوّنت قصص ألف ليلة وليلة. ازدهرت العمارة ببناء مدن مثل بغداد وسامراء، وبنيت العديد من المعالم والشواهد الباقية، فمن القصور: البركة، والعباسي. ومن الجوامع: الملوية، والخلفاء. وتطورت فنون الزخرفة والخط والموسيقى تدريجيًا وأصبح لها طلابها. قامت الدولة اقتصاديًا على الزراعة والتجارة العالمية عبر طريق الحرير، وازدهرت صناعات الورق والمنسوجات، مما جعل بغداد أكبر مدن العالم ثراءً قبل تراجع هذا الازدهار بسبب الحروب الداخلية وتحول طرق التجارة مع الوقت.