النوبة هي منطقة جغرافية وثقافية تمتد على طول نهر النيل، من أسوان في جنوب مصر شمالًا حتى التقاء النيل الأزرق والنيل الأبيض قرب الخرطوم في السودان. كانت النوبة مقرًا لعدة حضارات قديمة، منها حضارة كرمة ومملكة كوش ونوباتيا والمقرة وعلوة.
ارتبطت النوبة ارتباطًا وثيقًا بفنون الرماية والقتال بالقوس منذ العصور القديمة، حتى غدت القوس رمزًا عسكريًا يختصر هوية الجندي النوبي. وقد أطلق المصريون القدماء على النوبة اسم تا-سِتي أي "أرض القوس"، وهو لقب ذو دلالة تنظيمية يشير إلى الإقليم الذي يُجنَّد منه أمهر الرماة في الحملات العسكرية المصرية. كانت الرماية في النوبة ليست مجرد مهارة قتالية، بل نظامًا عسكريًا متكاملًا تُدرَّب عليه الفِرَق النظامية ضمن وحدات تعرف بـ"كتائب القوس" و"حراس السهام". وكانت القوس الطويلة والسهم الريشي من أهم أدوات القتال، وتُصنع من أخشاب محلية صلبة وأوتار حيوانية تُشدّ بعناية، في حين تُرصّ السهام في جُعَبٍ جلدية معلقة على الكتف أو الظهر، دلالةً على الجاهزية الدائمة. وتشهد النقوش الصخرية من العصر الحجري الحديث المنتشرة في جبال النوبة وسهولها على هذا الإرث القتالي، حيث تُصوِّر رجالًا في وضع الرماية أو في استعراض عسكري جماعي، مما يدلّ على وجود نظام تعبئة مبكر. كما عُثر في قبور الرجال – صغارًا وكبارًا – على أقواس وسهام وعتاد حرب، وهو ما يُشير إلى أن الانتماء للمؤسسة العسكرية كان شرفًا اجتماعيًا ومكانةً متوارثة تُعلِّم أبناء النوبة منذ الصغر فنون التصويب والانضباط القتالي.
كانت حضارة كرمة أول كيان سياسي-عسكري يوحِّد أجزاءً من النوبة السفلى في نظامٍ هرمي مركزي، حيث خضعت القبائل والمستوطنات لسلطةٍ موحّدة تجمع بين الحكم المدني والإدارة العسكرية. وشكّلت القوس والسهم الركيزةَ الأساسية في عقيدة القتال الكرماوية، فهما رمز التفوّق التكتيكي وعمود القوة الضاربة في الجبهة الأمامية.
كانت جيوش كرمة تُقسَّم إلى وحداتٍ نظامية تُشبه الكتائب، تتوزّع على "كتائب الرماة"، و"فرسان العجلات"، و"حرّاس النخبة" الذين يُمثّلون الصفوة القتالية. وبرزت طبقةٌ من المحاربين النبلاء، أي الفئة العسكرية العليا التي امتلكت امتيازاتٍ سياسية واقتصادية مقابل ولائها للنظام الحاكم. كان سلاحهم المميّز الأسلحة البرونزية — من رماح وسيوف وخناجر ودروع — مستوحاة ومستلهمة من النماذج المصرية، ولكنها صُنعت بتقنيات محلية دقيقة.
أما مملكة كوش التي خلفت حضارة كرمة، فقد نهضت على أساسٍ عسكريٍّ منظم، وأعادت صياغة مفهوم القوة في النوبة من شجاعة قبلية إلى جهازٍ قتالي مركزي، يجمع بين القيادة المركزية والانضباط الميداني. طوّرت كوش التنظيم العسكري والمنظومة اللوجستية بدرجة متقدمة، فأنشأت هيئات تخطيطية تشرف على التعبئة والتسليح وتوزيع المؤن عبر طرق استراتيجية (خطوط إمداد). كما يُفترض أنها اعتمدت نظامًا للتراتبية في الجيش قائمًا على الولاء والكفاءة لا على النسب القبلي.
تحوّلت كوش إلى قوة إقليمية ذات طموح استراتيجي، وأصبحت تُهدد مصر.
وفي القرن الثامن قبل الميلاد، لم تكتفِ مملكة كوش بالمناوشة عبر الحدود، بل اندفعت في حملةٍ هجومية كاسحة نحو الشمال، اجتاحت بها مصر، حتى بلغ جيش الملك بعانخي منف وطيبة.
بهذا الفتح العسكري أُقيمت الأسرة الخامسة والعشرون، أسرة الملوك الكوشيين، الذين حكموا مصر.
بعد إنتصار الآشوريون ونجاح الغزو الآشوري لمصر دخلت تقنية الحديد إلى مملكة كوش في القرن السابع قبل الميلاد، مما مكَّن الكوشيين من تصنيع أسلحة حديدية متطورة مثل السيوف والرماح والدروع. وقد شكّلت تلك التقنية نقلة نوعية في ميزان القوة العسكرية بين الجنوب والشمال.
شهدت المنطقة سلسلة من الصدامات بين الكوشيين والآشوريين، أبرزها معركة إلتِكه عام 701 ق.م، حين شاركت قوات كوشية إلى جانب المصريين في مواجهة الجيش الآشوري الذي إنتصر.
وفي عام 663 ق.م، قاد آشور بانيبال حملة كبرى على طيبة، فاجتاحها وهزم الكوشيين وأضعف نفوذهم في مصر، منهياً فعليًا الأسرة الخامسة والعشرين.
شهد العصر المروي ذروة التطور العسكري في مملكة كوش، إذ برزت خلاله عناصر جديدة في بنية الجيش وأسلوب الحرب. فقد ازدهر استخدام الفرسان كقوةٍ ضاربة متحركة، تُشكَّل من نبلاء ومحاربين محترفين يمتطون الجياد المدربة على القتال، إلى جانب العربات الحربية المزودة بالمحاور الحديدية والعجلات المقواة، والتي استُخدمت في المناورة والاختراق والقيادة الميدانية. كما أدخل المرويون الفيلة الحربية إلى المعارك، فكانت تمثل "دروعًا حية" تتقدم الصفوف، تُستخدم لتحطيم تشكيلات العدو وإرهاب الخصوم. وبهذا أصبح الجيش المروي واحدًا من أكثر الجيوش تنظيماً في إفريقيا القديمة، يجمع بين السرعة، والقوة، والرمزية الدينية في آنٍ واحد.
كما تطوّرت في تلك المرحلة تكتيكات الفرسان والحرب الحصارية، فشيّد المهندسون المرويون أبراج مراقبة ومنصات رمي تُشبه ما يُعرف اليوم بآلات الحصار. ويُعتقد أن فكرة المقاليع والمنجنيقات البدائية انتقلت إلى النوبة عبر الاتصالات والعلاقات مع الإغريق والبطالمة في مصر. كانت الممالك المروية تمتلك أيضًا أسطولًا نهريًا يحرس الممرات على النيل، ويؤمّن التجارة والتموين العسكري عبر الجسور والموانئ.
غير أن هذه القوة العسكرية بدأت تتدهور تدريجيًا في القرون اللاحقة، لأسبابٍ داخلية وخارجية متشابكة. فقد أدى ضعف الإدارة المركزية وتآكل السلطة الملكية إلى انقسام الولاءات داخل الجيش، بينما تراجعت الموارد المعدنية التي كانت تموّل صناعة السلاح. ومع ازدياد الهجمات القادمة من الشرق والشمال — سواء من القبائل الصحراوية أو من القوات الحميرية والبيزنطية لاحقًا — بدأ الجيش المروي يفقد قدرته على المناورة والدفاع عن المراكز الحيوية.
وفي مطلع القرن الرابع الميلادي، وجّهت مملكة أكسوم الإثيوبية ضربةً قاصمة للمرويين في حملةٍ عسكرية بقيادة الملك عِزانا، الذي اجتاح العاصمة مروي ودمرها، منهياً بذلك آخر أشكال التنظيم العسكري الكوشي المستقل. وبعد سقوط مروي، قامت على أنقاضها ممالك نصرانية مثل نوباتيا والمقرة وعلوة، والتي ورثت جزءًا من النظم الحربية والتنظيم الإداري للأسلاف، لكنها افتقدت لكل مقومات الفروسية المروية التي جمعت بين الشجاعة والانضباط والمجد الديني.