اكتشاف قوة أبو جعفر المنصور

أمير المُؤمِنين وخليفةُ المُسْلِمين سُلطان الله في أرضِه الإمام أبُو جَعْفَر عبد الله المَنْصُور بن مُحمَّد بن علي بن عبد الله بن العَبَّاس بن عبد المُطَّلِب الهاشِميُّ القُرَشيُّ (صفر 95 – 6 ذي الحجَّة 158هـ / نوفمبر 713 – 6 أكتوبر 775م)، المعروف بكنيته ولقبه معًا أبُو جَعْفَر المَنْصُور والمَنْصُور، هو ثاني خُلَفاء بني العَبَّاس، والخليفة الحادي والعشرون في ترتيب الخلفاء عن النبي مُحمَّد. حكم الدَّولة العبَّاسية (13 ذي الحجَّة 136 – 6 ذي الحجَّة 158هـ / 10 يونيو 754 – 6 أكتوبر 775م)، ودام حكمه إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرًا وثلاثة وعشرين يومًا حتى وفاته.

وُلد عبد الله بن مُحمَّد المعرُوف بكنيته أبي جعفر، في قرية صغيرة تدعى الحُمَيمة من جند الأردن الشَّاميَّة. وتلقى تعليمًا كثيفًا منذ صغره، فنشأ فصيحًا، بليغًا صحيحُ اللِّسان، وكان لتعلُّم الفقه والسُّنن نصيبٌ وافر في مسيرته لانتمائه لأسرة مسلمة مُحافظة على صلة وقرابة عُمومة بالنبي، فهو من ذرية الصَّحابي عبد الله بن عبَّاس. بعد اشتداد عود أبي جعفر دخل الدَّعوة العبَّاسية السِّريَّة التي أسسها والده مُحمَّد بن علي بهدف الإطاحة بحكم بني أميَّة، فنشط بها وتجوَّل داعيًا بين الأمصار إليها فزار البصرة والموصل ومكَّة والقيروان ودمشق وغيرها من المُدُن، مُكتسبًا خبرةً في معرفة الناس وأحوالهم، إلا أن العيون والأرصاد الأمويَّة لاحقته وطاردته، فاضطَّر للتنقُّل كثيرًا مُخفيًا هويته حفاظًا على حياته.

تولى أخوه إبراهيم الإمام وراثة الدَّعوة بعد وفاة والدهما سنة 124هـ / 742م، وفي عهده أظهر الثَّورة العبَّاسية سنة 129هـ / 747م بعد اكتمال تنظيمها وحلول وقتها، فجنَّد أبو مُسلم الخُراساني الأجناد، وقاد الحملات للسيطرة على خُراسان وما جاورها، غير أن الشُّرطة الأمويَّة في هذه الأثناء قبضت على الإمام إبراهيم إثر معرفتها بوقوفه خلف الثَّورة، ليُزج في السجن حتى وفاته. تولَّى أبو العبَّاس إمامة الدَّعوة بوصيةٍ من أخيه إبراهيم، فخرج بأهل بيته مع أبي جعفر نحو الكوفة سرًا بعد وصول الجيوش العبَّاسية إليها بقيادة القائد قحطبة بن شبيب الطَّائي تمهيدًا لإعلان تأسيس الخلافة العبَّاسية منها.

بُويع السَّفَّاح في الكوفة أول خليفةٍ من بني العبَّاس في صفر 132هـ / سبتمبر 749م، ووكَّل أبا جعفر بأخذ البيعة عنه. بعد هزيمة مروان بن محمد آخر خُلفاء بني أميَّة في وقعة الزَّاب وهروبه حتى مقتله في مصر استولى العبَّاسيُّون على معظم البلاد الإسلاميَّة من ما وراء النَّهر حتى إفريقية. سافر أبو جعفر في مهماتٍ رسميَّةٍ بتكليفٍ من أخيه الخليفة، فالتقى بأبي مُسلم وعرض عليه مسائلَ خطيرةً مثلَ خيانة الوزير أبي سلمة الخلاَّل، إلا أنه كره أبا مُسلم لمّا رأى منه عظمته في خُراسان مُشكلًا دولةً داخل الدولة متوجّساً تهديده سُلطةَ الخليفةِ نفسِه. ولَّى السَّفَّاح أخاه أبا جعفرَ أعمالَ الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، فقاتل الخوارج ليُعيد الاستقرار والهدوء في ولايته. قاد أبو جعفر مهمة حصار ابن هبيرة في واسط مدة 11 شهرًا، ومع أنه أراد تقديم الأمان له، إلا أن السَّفَّاح وبنصيحة أبي مُسلم أمر بقتله ناكثًا بذلك للعهد. أعجب السَّفَّاح بأخيه أبي جعفر، ورأى فيه صفات القائد الحريص والحذر على شؤون دولةٍ جديدةٍ متراميةِ الأطراف، فعهد إليه بالخلافة من بعده، ومن بعده لابن أخيهما عيسى بن موسى.

تولَّى أبو جعفر الخلافة في 13 ذي الحجَّة سنة 136هـ / 10 يونيو 754م بعد وفاة أخيه السَّفَّاح، ولم تكن أمور الدَّولة الوليدة قد توطَّدت دعائمها، فواجه مخاطرَ عديدةً هددت وجود الدَّولة أو وحدة الأسرة. تحقَّقت أولى مخاوف أبي جعفر حين ثار عمِّه عبد الله بن علي طلبًا للخلافة ورفض خلافة ابن أخيه لكونه انتُدب لحرب الأمويين وإنهاء وجودهم. أمر أبو جعفر القائدَ أبا مُسلمٍ على الرُّغم من حذره منه، بمحاربة عمِّه عبد الله وإنهاء شره، فانتصر أبو مُسلم عليه في نصيبين وفر عبد الله من المعركة لتنتهي ثورته. وجد أبو جعفر أن هدفَه التالي التخلُّص من أبي مُسلم ونفوذِه المُتعاظم في الدَّولة، فهو قادر على الاستقلال بخُراسان وربما إزالة الدولة نفسها إن استمر شرُّه، حتى إن السَّفَّاح لم يتمكن من قتله سابقًا مخافة إحداث فتنةٍ للدَّولة الوليدة حديثًا. دبَّر الخليفة مكيدةً لاستقدام أبي مُسلم إلى المدائن وقتله في شعبان سنة 137هـ / فبراير 755م. لم تنته مصائب الخليفة بمقتل أبي مُسلم، فقد تحرَّك الخطر الآخر الذي مثَّله أبناء عمومته من العلويين طلبًا للخلافة، فانتفض محمد النَّفس الزكيَّة في المدينة المنورة وتبعه أخوه إبراهيم بن عبد الله في البصرة منتصف سنة 145هـ / أواخر 762م، ليقضي عليهم تباعًا. لقَّب أبو جعفر نفسه بالمنصُور بعد هزيمة النَّفس الزكيَّة تعبيرًا عن الشخص الذي نصره الله على أعدائه.

واجه المنصُور العديد من الثورات والتحديات، منها ثورة سنباد وثورة أستاذ سيس في خُراسان وسجستان، وثورات كثيرة للخوارج من الصفريَّة والحروريَّة والإباضيَّة في الجزيرة، وعُمان، وإفريقية وغيرها من الولايات، وظهور طائفة الرَّاوندية التي ادَّعت ألوهية المنصُور، والاصطدام مع الأصبهبذ حاكم طبرستان، وثار العبيد في المدينة المنورة، وتمرُّد عدد من القادة والوُلاة عليه مثل عبد الجبَّار الأزدي، وجمهور العجلي، واضطَّربت أحوال إفريقيَّة بظهور الخوارج، ولم تكن الأحوال هادئة في أطراف البلاد مع الممالك المُحيطة بها، فقد استمرت الحروب والحملات الموسميَّة بين الخلافة العبَّاسية ومملكة الرُّوم، إضافةً لقيام الخزر والتُّرك بالإغارة على ولاية أرمينية، وقيام عبد الرحمن الدَّاخل الأموي بالاستقلال بالأندلس، مما سبَّب تهديدات متواصلة للبلاد في عهد المنصُور. تمكَّن الخليفة في النهاية من سحق معظم الثَّورات وإخماد الفتن والاضطِّرابات التي شبَّت في أنحاء دولته، فحافظ على هيبة الخلافة، وأرسى قواعدها، وثبت دعائمها، مُسهلًا على الخُلفاء من ذريته لاحقًا، ليشتهر عهده بالحزم والصَّلابة، في حين ازدهر وانفتح في عهد ابنه مُحمَّد المهدي.

أشرف المنصُور بنفسه على مشاغل الحكم وأعبائه، فلم يكن للوزير أهمية في عهده سوى المُساهمة في الرأي والشورى. ومن أشهر وزرائه أبو أيوب المورياني، فقد دامت وزارته لنحو 13 عامًا. حرص المنصُور على ميزانيَّة الدولة وضبط الأسعار في أسواق البلاد، وحاسب عُمَّاله على تقصيرهم، وراقب أداءَهم لمنع وجود أي تلاعبٍ يخل ببيت مال المُسلمين، وأنشأ ديوان المظالم لهذا الغرض. عمل المنصُور على التأكيد على فصل القضاء والتأكيد على استقلاليته، واهتم بتقوية الجيش العبَّاسي مُحافظًا على التوازن بين فِرق الجيش من العرب والخُراسانيَّة والموالي تفاديًا لوقوع المشاكل، غير أن جلَّ قادة جيشه كانوا من العرب مثل خازم بن خزيمة التَّميمي، ويزيد بن حاتم المهلبي، ومحمد بن الأشعث الخزاعي، وبعضهم من أهل بيته مثل عيسى بن موسى، وصالح بن علي، والعبَّاس بن مُحمَّد وحتى ابنه مُحمَّد المهدي الذي قاد فتح طبرستان الأوَّل سنة 141هـ / 758م.

من أبرز إنجازات المنصُور الخالدة هو بناؤه لمدينة السَّلام (بغداد)، فقد ضاق ذرعًا من سكنه في الهاشميَّة المُضطربة اثر ثورة الرَّاوندية، فأرسل مجموعة لاستكشاف أنسب الأماكن في العراق، فاختير موضع بغداد لجودة هوائها، وتوسُّطها ولايات الدَّولة، فبُنيت على طراز مُدوَّر، وجعل لها أربعة أبوابٍ وبنى قصره والمسجد الجامع في وسطها، وسُرعان ما توسَّعت وكثر سكانها لتصبح حاضرة الخلافة لخمسة قرونٍ قادمةٍ ما خلا بضع سنواتٍ حين بنيت سُرَّ من رأى في عهد حفيده المُعتصم بالله. بنى المنصُور العديد من المُدُن وعلى الثُّغور مع الرُّوم والخزر، فبنى ملطية، والمُصَيْصَةَ، والرَّافقة، والمُحمَّدية وغيرها لحماية المُسلمين من غارَّات الرُّوم والخزر.

وُصف الخليفة المنصُور بأنه شديد التمسُّك بالدين، وقورًا وحسن الخلق في خلوته ومع أهله، بينما يتغير كليًا حين يخرج من خلوته، فلم يعرف العبث ولا المزاح، وخلا قصرُهُ من مظاهر الأبَّهة والغناء. كان المنصُور كريمًا في بعض المواطئ، إلا أن شُحه وحرصه على جني الأموال بهدف حماية دولة بني العبَّاس وازدهارها لاحقًا قد غلبت عليه عند بعض المُؤرخين. أحب المنصُور أهل العلم وأصحاب الحديث وقرَّبهم إليه، فالتقى أبا حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، وعبد الرَّحمن الأوزاعي، وغيرهم ممن دُرِّس فقههم لينتشر في ربوع العالم الإسلامي لاحقًا.

عاصر المنصُور الكثير من الأحداث، فحكم نحو 22 عامًا، شهد فيها أشد المصاعب والفتن التي كادت لتضع حدًا للدَّولة العبَّاسية الوليدة، فتمكن من الحفاظ عليها وتقوية دعائمها، واستهلك ذلك من صحته وقوته خصوصًا عند كبر سنه، فأصيب بحرٍ شديد حينما أراد المسير لأداء الحج، ثم اشتد عليه المرض في بطنه، وتفاقمت عِلَّتُه بنزوله في نواحي مكَّة -ولم يكن قد حج بعد- ليتوفى في السَّادس من ذي الحجَّة سنة 158هـ / السَّادس من أكتوبر 775م ودُفن في مقبرة المعلاة. يُعد المنصُور المُؤسس الحقيقي للدَّولة العبَّاسية التي استمرت لخمسة قرونٍ فعليًا حتى سقوط بغداد سنة 656هـ / 1258م، وهو الجد الجامع للخُلفاء العبَّاسيين من بعده حتى زوال خلافة بني العبَّاس في القاهرة بسقوط راعيتِها الدَّولةِ المملوكيَّةِ سنة 922هـ / 1517م، في عهد آخر خُلفائها المُتوكِّل على الله الثَّالث.

قراءة المقال الكامل على ويكيبيديا ←